نصّ الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد:
فقد روى مسلم في" صحيحه " عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال:
لَمَّا نَزَلَتْ علَى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ علَى أَصحَابِ رسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا:
أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا ؟!
قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟! بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )).
قالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تعالى، فأَنزَلَ اللهُ عزّ وجلّ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
قالَ تعالى: نَعَمْ.
فسبب ورود الحديث يوضّح أحدَ أمرين:
أ) إمّا أنّ الدّعاء سابقٌ لقوله تعالى:{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، وهذا مذهب جمهور المفسّرين، بدليل قوله في الأخير: ( نَعَمْ )، أي: أجبت.
وعليه فلا إشكال.
ب) أو أنّ الآيةَ إنّما هي بيانٌ للمراد بقوله تعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ}، فما تخفيه الأنفس نوعان:
نوعٌ هو خارج عن طاقتهم وليس بإمكانهم ردُّه: وهو ما كان من جنس الخواطر العابِرة.
ونوعٌ هو ما كان في وُسعِهِم ردّه، وهو: ما كان من جنس ما يهمّ به المرء ويعزِم عليه في نفسه، ويُمكنُه ردّه ودفعُه.
فالعبدُ يُحاسب على النّوع الثّاني، أي: ما في وُسعِهم ردُّه؛ لذلك قال بعدها:{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وهذا اختيار الإمام الطّبريّ رحمه الله.
فعليه، يكون قوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} بيانا لقوله سبحانه:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}، والبيان يسمّى نسخاً عند السّلف كما هو معلوم.
الحاصل: أنّ قوله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ليس جوابا لدعائهم، وإنّما الجواب عن دعائهم هو قوله في الحديث القدسيّ: نعمْ، وفي رواية: ( قَدْ فَعَلْتُ ).
والله أعلم.